مكتبـــــة المقالات

2025-10-28 10:00:00

بمناسبة اجتماع رِؤساء المحاكم الشرعية

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أما بعد : فبمناسبة اجتماع رؤساء المحاكم الشرعية في المملكة العربية السعودية ، يسرني – نزولاً عند رغبة مجلة الدعوة – أن أطرح مشاركة ، علَّ الله أن ينفع بها قائلها وسامعها وقارئها ، فأقول وبالله تعالى التوفيق:

فضيلة المشايخ .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وحيّاكم الله وبيّاكم في اجتماعكم الذي يؤمل بالله تعالى أن يكون دافعاً إلى مضاعفة الخير.

معشر المشايخ .. لا يخفاكم أهمية منصب القضاء ، وما له من التأثير الحسي والمعنوي في نفوس أفراد المجتمع جميعا. فكم رفع من حق ، وكم دُحض من ظُلم ، وكم قرّت من عين وكم انشرح صدر ، بل كم ارتفعت من أكف للضراعة إلى الله بالدعاء لمن كان سببا في رد المظلمة وإحقاق حق عن طريق القضاء بخاصة ، ومن غيره عامة .

شاهد المقال .. عَظَم منصب القضاء وأثره البليغ ، ومما يدل على ذلك ما أفرده المصنفون من المتقدمين والمتأخرين من المصنفات المستقلة في منصب القضاء ، ناهيك عما ضمّنه الفقهاء في كتبهم المطوّلة والمختصرة من عقد مبحث مستقل في كتاب القضاء .

والذي اُذكر بل أُؤكّد عليه – وهو معلوم لدى جميع أصحاب الفضيلة – بعض الأمور أرى لزاماً عليَّ ذكرها في مثل هذه المناسبة المباركة .

أولاً : الإخلاص لله تعالى في أداء العمل ، واحتساب الأجر في تحمّل ضغط العمل ، فالثغر عظيم وأنتم إن شاء الله تعالى أولى من يقوم به .

ثانياً : القدوة الصالحة في شخص القاضي وسمته ولباسه ، فالقاضي محط أنظار الناس في مسجده ومكتبه ومجالسه.

ثالثاً : أن يحرص القاضي – إن وجد من نفسه قدرة – على أن يكون خطيباً للجمعة ، فإن تعذّر فلا أقل من كونه إماما وإنما ذكرت القاضي لهذا المنصب لتأثر الناس بشخص الخطيب وعلمه فإذا صعد القاضي منبراً أو تقدم في محراب فذلك أوقع في قلوب الناس وأكثر تأثيرا في نفوس السامعين لكلامه وتعليمه وتوجيهه ، وقبل هذا ومعه وبعده الإخلاص لله تعالى في ذلك.

رابعاً : أن يحرص القاضي على استمرار الصلة بالعلماء مجالسة ومهاتفة ومكاتبة ، ففي ذلك خير عظيم له ولعمله.

قال الإمام مالك رحمه الله تعالى : ( ينبغي للقاضي أن لا يترك مجالسة أهل العلم ، وكلما نزلت به نازلة ردها إليهم وشاورهم ، قيل له : فإن كان عالماً ؟ قال : أتراه أعلم من عمر بن الخطاب ، وقد كان تنـزل به النوازل فيجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا يسأل بعضهم بعضا عمّا تنـزل بهم .وهكذا القضاة ، وهذا العمل المعمول به الذي لا يسع أحداً غيره ولم يزل أهل العلم والفضل ببلدنا على هذا) (1)

خامساً : أن يحرص القاضي على عقد مجلس عِلم في مسجده وكذا المشاركة في الندوات والمحاضرات ، وفي ذلك مصالح كثيرة منها ما تقدم من تأثر الناس بشخص القاضي وعلمه وتوجيهه أكثر من غيره .ومن المصالح أيضاً أن يكون القاضي على اتصال بمراجع العلم ومصنفاته – في غير أحكام القضاء – لأن غير واحد من القضاة يعزو تفلّت علمه وعدم مراجعته لكتب العلم بسبب إرهاق العمل وعدم التفرغ الذهني للقراءة الحرة ، وهذا على إطلاقه ليس بمسلّم ، فشواهد الحال من كثير من القضاة تؤكد أن هذا المنصب لا يعيق بل إنه يعين على المضاعفة من الطلب والتحصيل .

واستميح أصحاب الفضيلة عذراً في القول بأن الانكباب الكلي على كتب علم القضاء وأحكامه – مع ما في ذلك من النفع العظيم على عمل القاضي – وترك ما سواها على حساب التخصص القضائي فيه تفلّت وذهاب لحفظ القاضي وبعض علمه ، كما أفاد به غير واحد من المختصين بذلك .ويحسن في هذا المقام أن أذكر ما سطره الإمام الماوردي في مبحث نفيس ضمن كتابه (( أدب الدنيا والدين )) (2) .

سمّي ذلك المبحث : أسباب التقصير في طلب العلم ، فقال رحمه الله تعالى : ولذلك أسباب فاسدة ودواع واهية فمنها : أن يكون في النفس أغراض تختص بنوع من العلم ، فيدعوه الغرض إلى قصد ذلك النوع ، ويعدل عن مقدماته ، كرجل يؤثر القضاء ويتصدى للحكم ، فيقصد من علم الفقه إلى أدب القاضي وما يتعلق به من الدعوى والبينات ، أو يحب الاتسام بالشهادة فيتعلم كتاب الشهادات لئلا يصير موسوما بجهل ما يعاني ، فإذا أدرك ذلك ظن أنه قد جاز من العلم جمهوره ، وأدرك منه مشهوره ، ولم ير ما بقي إلاّ غمضا طلبه عناء وعويصا استخراجه فناء لقصور همته على ما أدرك ، وانصرافه عما ترك ، ولو نصح نفسه لعلم أن ما ترك أهمُّ مما أدرك ، لأن بعض العلم مرتبط ببعض ، ولكل باب منه تعلّق بما قبله ، فلا تقوم الأواخر إلا بأوائلها ، وقد يصح قيام الأوائل بأنفسها ، فيصير طلب الأواخر بترك الأوائل تركا للأوائل والأواخر ، فإذا ليس يَعْرَى من لوْم ، وإن كان تارك الكلّ ألوم .. (3) ، انتهى بحروفه .

وبكل حال متى ما جاهد العبد نفسه وصدق مع ربه بارك الله في جميع شأنه : ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ .

والأمثلة على بركة الوقت كثيرة منه المقروء ومنها المسموع ومنها المشاهد ، ويكفي من ذلك ما نراه من بعض مشايخنا المعاصرين من كثرة الأعمال الوظيفية وتزاحم الأشغال – حتى أن بعضهم لو قُسّمت أعماله على سبعة لكفتهم – ومع ذلك لم تنقطع دروسهم ولا محاضراتهم بل هم في زيادة ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، فبركة الوقت تكون بعد فضل الله على حسب إخلاص الداعي وقوة عزيمته وعظيم همته ، ولذا يلاحظ على بعض المشايخ أن بركة الوقت عنده أكثر ممن هو أقل منهم شغلا ، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك ما كان من شأن سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز جمعنا الله وإياكم وإياه في فردوسه الأعلى .بكل حال وعوداً على بدء : القاضي كالغيث أينما حل نفع ، ففي مكتبه مخلصا لحقوق الناس ، وفي منبره ومحرابه معلما وموجها ، وفي مجالسه العامة والخاصة قدوة لجلسائه .سادساً : أن يحرص القاضي على تأسيس شيء من مشاريع الخير ، فإن كان في بلدة ليس فيها مركز للهيئة أو مبرة خيرية أو مكتب للدعوة سعى في إيجادها ، وإن كانت موجودة سعى في زيادة دعمها ماديا ومعنويا ، ففي ذلك خير كثير وعظيم له ولأهل البلد ولمن قدم إليها .


(1) مناقب الإمام مالك بن أنس للزواوي ص154 – 155 .

(2) ذكر بعض المحققين أن اسم الكتاب الأصلي : (( البغية العليا في أدب الدين والدنيا )) ، لكن العنوان المطبوع على نسخ الكتاب هو : (( أدب الدنيا والدين )) ، ولتمام الفائدة فقد صدر كتبا لطيف حول عناوين الكتب وبيان الصحيح من الخطأ المشهور .انظر كتاب (( العنوان الصحيح للكتاب ... )) تأليف : الشريف حاتم بن عارف العوني .

(3) ص55 – 56 .

مقالات ذات صلة