مكتبـــــة المقالات

2025-10-28 10:00:00

أهمية التوحيد

إنّ من المعلوم لدى جميع المسلمين إن شاء الله تعالى أنّ الكلام عن العقيدة الصحيحة وبيانَ أصولها من أهمِّ الأمور وآكدها؛ لأنّ العقيدة هي رأسُ الأمر وبصلاحها يصلُح أمرُ العبد، وبفسادها يفسُد أمرُه أو كمالُ أمره على حسب ما أحدَثَ من الخلل.

إنّ الله خلقنا لعبادته، وأمرنا بتوحيده وطاعته، وهو تعالى غنيٌّ عنَّا ونحن الفقراء المحتاجون إليه، كما قال تعالى: ﴿وما خلقتُ الجنّ والإنس إلّا ليعبدون * ما أريدُ منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعِمون * إنّ اللهَ هو الرزّاق ذو القوّة المتين﴾ [الذاريات: 56-58].

فالحكمة من خَلقِنا هي العبادة، وهي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «العبادة اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة»(1).

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في «تفسيره» عند هذه الآية: «ومعنى هذه الآية: أنّ الله خلق الخلق ليعبدوه وحدَه لا شريك له، فمن أطاعه جزاه أتمَّ الجزاء، ومن عصاه عذّبه أشدّ العذاب، وأخبر أنه غير محتاجٍ إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وهو خالقهم ورازقهم...»(2) إلخ ما قال رحمه الله تعالى.

وبناءً على ذلك فينبغي للعبد أن يتفقّد عبادته لربِّه عزّ وجلّ، وأن يحرص كلّ الحرص على جعل تلك العبادة مزمومةً بزمامين: زمام الإخلاص لله تعالى، وزمام المتابعة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وعودًا على بدء يقال هاهنا:

إنّ أساس العبادة وأصلها الأصيل هو توحيد الله عزّ وجلّ، ويكون ذلك بإفراده بالعبادة وحدَه لا شريك له، فهو واحدٌ في أسمائه وصفاته لا نِدّ له وشبيه، ﴿ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير﴾ [الشورى: 11].

وهذا الأصل العظيم هو الذي دعت إليه الرُّسل جميعًا، كما قال تعالى:  ﴿ولقد بعثنا في كلِّ أمة رسولًا أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾ [النحل: 36].

وقال تعالى: ﴿ وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم﴾ [البقرة: 163].

ولقد قام أنبياء الله ورسُله ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ بهذا الأمر أتمَّ القيام وأكمله، فرفعت أممهم ألوية العداوة والبغضاء وأجلبوا بخيلهم ورَجِلهم في حرب هذا الأمر قولًا وفعلًا، وقالوا: ﴿ أجعلَ الآلهة إلهًا واحدًا إنّ هذا لشيءٌ عجاب﴾ [ص: 5].

﴿ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحدَه ونذرَ ما كان يعبد آباؤنا﴾ [الأعراف: 70].

﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب﴾ [هود: 62].

﴿ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد﴾ [هود: 87].

وهكذا أعلن أعداء الرسل رفضهم لدعوة رسلهم بكل ما أوتوا من قوة، ومع هذا كلِّه لم يفتُر أنبياء الله ورسله عن دعوتهم، بل دعَوهُم بكل ما أوتوا من حكمة وبيان، بأقوى حجّة وأبلغها، ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيى من حيي عن بيِّنة.

شاهد القول: أنّ مسألة توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة هي أعظم المسائل وأجلّها قدرًا.

ولزيادة الإيضاح في هذا المقام العظيم نقول:

إنّ توحيد الله تعالى ينقسم عن التفصيل إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: توحيد الربوبية

وهو توحيد الله بأفعاله، ومعناه: الإقرار بأفعال الربّ وتدبيره للعالَم وتصرُّفه فيه، وهذا التوحيد هو الذي أقرَّ به المشركون، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: ﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله﴾ [الزخرف: 87]، وبقوله تعالى: ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله﴾ [لقمان: 25]، وبقوله عزّ وجلّ: ﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمَّن يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يُخرج الحيَّ من الميت ويُخرج الميت من الحيِّ ومن يُدبِّر الأمر فسيقولون الله قل أفلا تتّقون﴾ [يونس: 31].

ومع هذا كلّه ـ من إقرار المشركين بأنّ الله هو الخالق الرازق المدبِّر ـ لم ينفعهُم ذلك ولم يُدخِلهم في الإسلام؛ لأنهم اتّخذوا من دون الله آلهةً أخرى وزعموا أنها تُقرِّبُهم إلى الله زُلفى.

﴿ والذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبُدهم إلّا ليقرِّبونا إلى الله زلفى﴾[الزمر: 3].

﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرُّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾ [يونس: 18].

أما القسم الثاني من أقسام التوحيد فهو: توحيد الأسماء والصفات

وهو وصف الله تعالى وتسميتُه بما وصف وسمَّى به نفسَه وبما وصفه وسمَّاه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه، وإثبات تلك الأسماء والصفات من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تأويل، ﴿ ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير﴾ [الشورى: 11].

وهذا النوع من جنس توحيد الرُّبوبية، قد أقرّوا به وعرفوه، بل توحيد الربوبية يستلزمه؛ لأنّ من كان هو الخلّاقَ الرزّاق والمالك لكلِّ شيءٍ فهو المستحقّ لجميع الأسماء الحُسنى والصفات العُلى.

أمّا القسم الثالث من أقسام التوحيد فهو: توحيد الألوهية

وهو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، فلا يُعبد غيرُه ولا يُدعَى سواه ولا يُستغاث ولا يُستعان إلّا به، ولا يُنذر ولا يُذبح ولا يُنحَر إلّا له، كما قال تعالى: ﴿ قل إنّ صلاتي ونُسُكي ومحيايَ ومماتي لله ربِّ العالَمين * لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا أوّل المسلمين﴾ [الأنعام: 162].

وهذا النوع من التوحيد هو الذي أنكره المشركون واستعظموه؛ لأنّ من لوازمه بُطلان عبادة آلهتهم ووسائطهم، فجادلهم الرُّسل عليهم الصلاة والسلام في تقريره وقَبوله.

وهذا النوع من التوحيد هو معنى «لا إله إلّا الله»، والمراد بها: لا معبودَ بحقٍّ إلّا الله، فهي تنفي العبادة بجميع أنواعها من غير الله، وتُثبتُها بجميع أنواعها لله وحدَه.

وهذه الكلمة ـ لا إله إلّا الله ـ هي كلمة التوحيد، وكلمة الإخلاص، وهي أصل الدِّين وأساسه، وهي الكلمة التي دعا الرُّسل أقوامهم إليها، ودعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليها قومَه وعمَّه أبا طالب فلم يُسلم وما على دين قومه.

وكلمة التوحيد هذه قد أوضح اللهُ معناها في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، كقوله تعالى: ﴿ وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلّا هو الرحمن الرحيم﴾[البقرة: 163]، وقوله: ﴿ وقضى ربُّك ألّا تعبدوا إلّا إياه وبالوالدين إحسانا﴾ [الإسراء: 23]، وقوله: ﴿ وما أُمِروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدِّين حُنفاء﴾ [البيِّنة: 5].

فالله سبحانه وتعالى هو الحقّ، وله دعوة الحقّ، وعبادتُه هي الحقّ دون كلِّ ما سواه؛ فلا يُستغاث إلّا به، ولا يُنذَر إلّا له، ولا يُتوكّل إلّا عليه، ولا يُطلب الشفاء إلّا منه، ولا يُطاف إلّا ببيته العتيق... إلى غير ذلك من أنواع العبادة.

وهذا النوع من التوحيد ـ أعني توحيد الألوهية ـ هو الذي ضلّ فيه الكثيرون بسبب التلبيس والشُّبَه التي يُلقيها شياطين الإنس والجنّ.

إنّ مَن أتقن أنواعَ التوحيد الثلاثة وحفظها واستقام على معناها علم أنّ الله هو الواحد حقًّا، وأنه هو المستحقّ للعبادة دون جميع خلقه، ومن ضيَّع واحدًا منها أضاعها جميعًا، فهي متلازمةٌ لا إسلام إلّا بها جميعًا؛ فمن أنكر صفات الله وأسمائَه فلا دين له، ومن زعم أنّ مع الله مُصرِّفًا للكون يُدبِّر الأمرَ فهو كافرٌ مشركٌ في الرُّبوبية بإجماع أهل العلم، ومن أقرَّ بتوحيد الرُّبوبية والأسماء والصفات ولكن لم يعبُد اللهَ وحدَه بل عبدَ معه سواه من المشايخ أو القبور أو الملائكة أو الأنبياء فقد أشرك بالله وكفر به سبحانه، ولا تنفعُه بقيَّة الأقسام ـ لا توحيد الرُّبوبية ولا توحيد الأسماء والصفات ـ حتى يجمع بين الثلاثة فيُقرَّ بأنّ الله هو ربُّه الخالق المالك لجميع الأمور، ويقرّ بما كفر به المشركون، وحتى يؤمن بأنّ الله سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العُلى.

اللهمَّ أحينا على التوحيد سُعداء، وأمتنا على التوحيد شهداء.


(1) «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية (10/149).

(2) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (4/255).

مقالات ذات صلة