مكتبـــــة المقالات

2025-10-28 10:00:00

من أساليب المنصِّرين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
كانت حالُ الناس في الجاهلية ضاربةً في أعماق الفوضى العقدية والخلُقية... فعبادة الأصنام وتقديس الأشجار والأحجار من أهمِّ المهمَّات، فإلى أصنامهم يرِدُون، وعن أصنامهم يصدُرون.
ناهيك عن التناحُر القبَليّ والاجتماعيّ.. فدماءٌ تُراق، ونفوسٌ تُزهَق، وحرُوبٌ تنشب لأتفه الأسباب وأحقرها، فلا أمن ولا أمان، ولا راحةَ ولا استقرار، بل كلٌّ يخشَى ويترقّب، ولسانُ حال الواحد منهم: نفسي نفسي!
وفي خِضَم تلك الصِّراعات والتناحُرات والضياع العقديّ والخلُقيّ بعث الله رسولَه محمدًا ج، فأحيا به قلوبًا غُلفًا، وأسمعَ به آذانًا صُمًّا، وفتح به أعيُنًا عُميًا.
قام نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم بدعوته أتمَّ قيام، وجاهد في الله حقّ جهاده، فأعاد للحنيفية السمحة ملةِ إبراهيم عليه السلام ضياءَها وصفاءَها، وأزال عنها ما علِقَ بها من أوزار الجاهلية وضلالاتها... أخرج الله به الناسَ من الظلمات إلى النور، فهوت الأفئدةُ إلى دعوته واطمأنّت بها قلوبهم، وانقاد الناسُ إلى الإسلام طوعًا واختيارًا، وبذلوا مُهَجَهُم وأرواحَهم وأموالهم في نُصرته.
وقويت شوكةُ الإسلام، وشعرت أعتى قُوَّتين في ذلك العصر ـ فارس والرُّوم ـ بانتشار المدِّ الإسلامي، فلمَّا أدرك الأعداء ذلك انتابهم الفزعُ والرُّعب، فسلّوا سيوفَهم ونادَوا جموعَهم، ووحَّدوا صفوفَهم لحرب الإسلام والمسلمين.
فجُرِّدت سيوف الإسلام من أغمادِها فقارعت كتائبَ الشرك والوثنيَّة، وطوَّحت ذات اليمين وذات الشِّمال، وسقطت معاقلُ الشرك والضلال الواحد تلو الآخَر، وارتفعت رايةُ الإسلام خفّاقةً في مناطقَ شاسعةٍ لا تغيبُ عنها الشمس.
مع هذا كلِّه.. مع وهَن الأعداء وضعفهم وانكسار شوكتهم؛ لم تفتُر عزائمُهم عن استغلال أيِّ فُرصة تلوحُ لهم في بثّ باطلهم، بل قاموا باستجماع قواهم وأعانهم على ذلك وقَوَّى شوكتهم ما أصاب المسلمين من الضعف والخَوَر في العصور المتأخِّرة، فشهر الاستعمال سلاحَه وأقبل بوجهه الشاحب فاستولى على كثيرٍ من بلاد المسلمين، فأصبحت تلك البلدان ترضح وترزَحُ تحت وطأة السلاح والتهديد، فاستحوذ أعداءُ الله على كثير من ثروات الأرض وخيراتها، وخرجت أجيالٌ مسلمةٌ مفقودة الهويَّة، تتكلّم بلُغة المستعمر وتُحاكيه في كثيرٍ من أنظمته وأعرافه، وأنكى من ذلك أن يخرج جيلٌ من أولئك يتباهَى بأثر المستعمر ولُغَته!
ولم يكتفِ الاستعمار بذلك؛ بل كان من أهمِّ أهدافه أن يفرش البساط ويُمهِّد الطريق للاستعمار الفكريّ، وذلك من خلال دعم حملات التنصير دعمًا مادِّيًّا ومعنويًّا.
فقامت تلك الإرساليّاتُ والبعثات بمُهماتها التي ذهبت من أجلها، وحرصت على تقديم ما تحتاجُه تلك الشعوب المستهدَفة من ضروريّات الحياة وما لا غِنَى للناس عنه، وكان من أبرز ذلك: أمورُ الاستشفاء والتطبيب، يؤكِّد ذلك ما خلّفه المستعمرون وأذنابهم من تلك المصحَّات المتنوِّعة التي كان بعضُها في الأدغال والصحاري ومجاهل الغابات.
إنّ مجال الطبّ كان مرتعًا خصبًا للمُنصِّرين، وكان من أسهل الطرُق إلى التأثير على قلوب بعض الجهَلة، فلأجل ذلك ضاعفَ أعداءُ الله من بعث ونشر تلك الإرساليّات الطبِّية.
ومن أقوال بعض أولئك المنصِّرين: «إنّ المبشِّر ـ يعني المنصِّر ـ لا يرضَى عن إنشاء مستشفى ولو بلغت منافعُ ذلك المستشفى منطقة بأسرها، لقد وُجِدنا نحن في بلاد العرب لنجعل رجالها ونساءها نصارى».
وقال آخرُ منهم: «حيث تجدُ بشرًا تجدُ آلامًا، وحيث تكون الآلام تكون الحاجة إلى الطبيب، وحيث تكون الحاجة إلى الطبيب فهناك فرصةٌ مناسبة للتبشير».
وقال آخر يوصي طبيبًا في إرسالية: «إيّاك أن تُضيِّع التطبيب في المستوصفات والمستشفيات، فإنه أثمن تلك الفُرَص على الإطلاق».
بل بلغ الحالُ ببعض أطبّائهم أنّ مرحلة العلاج لا تبدأ عنده إلّا بعد أن يركع المريض ويسأل المسيح أن يشفيه.
ومما حرص عليه أولئك المنصِّرون في تسهيل دعوتهم: استغلال وسيلة أخرى من ضروريات الحياة، وهي ما يتعلق بأمر الطعام والشراب، فجابوا الفيافي والقفار بحثًا وطلبًا لأولئك المسلمين الذين لبسوا ثياب الجوع والخوف، فأغدقوا عليهم أصناف الطعام والشراب واللباس، وهم في ذلك كلّه مجتهدون في بثّ دعوتهم تحت غطاء المشاريع الخيريَّة أو الإنسانية كما يُسمُّونها.
وأمّا نشاطهم الإعلاميّ فحدِّث عن ذلك ولا حرج، فقد سيطروا على وسائل الإعلام العالمية، وصدّروا بضاعتهم إلى كثير من بلاد المسلمين، فكان إعلامُهم ـ ولا يزال ـ يُشجِّع بل يحثّ على الفاحشة والرَّذيلة، ناهيك عن طباعة المجلّات والكتُب الموغلة في نشر الرَّذيلة بجميع أشكالها وأنواعها، ومن ثَمّ تصديرُها إلى عددٍ غير قليل من بلاد المسلمين.
ومن أخطر نشاطهم الإعلاميّ: تلك المؤلّفات والرَّسائل الجامعية وغيرها التي تُثير الشُّبه، بل تطعن في القرآن وفي نبيِّ الإسلام صلى الله عليه وسلم وفي الصحابة، وتُشكِّك في حقائق وثوابت مُسَلَّمة، وقام بإعداد تلك الرَّسائل ثُلة من المعلِّمين في الجامعات والمراكز العلمية عندهم.
وإنّ ممّا زاد من خُطورة تلك المؤلّفات المشبوهة: تلقُّفها من بعض الطبقات العلمية في بلاد المسلمين وأخذها برُمَّتها والسير على منوالها حذوَ القُذّة بالقذّة والنعل بالنعل، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع؛ مما ترتّب عليه نشوءُ جيلٍ ينظُر إلى المُنظِّرين الغربيِّين نظرة تعظيم وإكبار!
وهذا ـ وايم الله ـ من تنكُّس الفطَر واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
وممّا ينبغي أن يُعلم: أنّ هدف أولئك النصارى الذي يسعون إليه لم يكن مقصورًا على تنصير المسلمين فحسب، فهم يُدرِكون أنّ ذلك قد يكون ضربًا من المستحيل عند كثير من المسلمين؛ لعلمهم بأنّ من الصعوبة بمكان تغيير الفطرة العقدية من الدِّين الحقّ إلى دين آخَر، لذلك جعلوا نصب أعيُنهم غايتين:
الأولى: محاولة تنصير من يستطيعون من المسلمين.
والثانية: إخراج المسلم من أمور الديانة والمعتقَد وتركه يعيش أسيرَ شهواته وشُبهاته، فيصبح بذلك أشدّ عبئًا على الإسلام من عدُوِّ الإسلام!
ولأجل تلك الغايتين الخبيثتين بذل النصارى وأعوانُهم قُصارَى جُهدهم الحسِّي والمعنويّ في تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من تنصير المسلمين أو إخراجهم من دينهم إلى حياةٍ بهيمية.
فبالإضافة إلى وسائلهم السابقة من استعمار وتطبيب وتقديم غذاء... سلكوا سُبُلًا أخرى في إضلال المسلمين وإغوائهم.. ﴿ ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً ﴾ [النساء: 89].
فمن وسائل إضلالهم: تلك الدِّعايات والتسهيلات التي تتنافس فيها شركات السِّياحة والطيران، وتتبارى في جذب شباب المسلمين إليها، حتى أوقعت في شراكها كثيرًا من أولئك الشباب، وأصبح بعضُهم بوقَ دعاية لهم من حيث لا يشعُر! يتسابق كثيرٌ من شباب المسلمين إلى التجاوب مع تلك الدِّعايات والإعلانات ذات الصوَر الخلّابة والإغراءات الفاتنة.
فتُنفَق أموالٌ، وتُهدَر أوقاتٌ، ولا يفيق أولئك المغرَّر بهم من غفلتهم وسُباتهم إلّا عند نفاد أموالهم وتقضِّي أوقاتهم!
وأدهى وأمرّ أنّ بعض الآباء قد يكون عونًا ـ بل محفِّزًا ـ لولده على السفر، وذلك بدعمه المادِّي والمعنويّ، وهنا تجأر المسؤولية من ضياع حقِّها وإهدار كرامتها.
فيا عجبًا من أولئك الآباء! كم تحمَّلوا من الأوزار في إعانتهم أولادَهم على الضياع، فضلًا عن دعم عجلة اقتصاد تلك الشركات السياحية في قيمة الحجوزات والتنقّلات.
ومن وسائل التنصير أيضًا: تخصيص إذاعات تنصيرية تبُثّ برامجها صباح مساء، مع استعدادها وحرصها على مراسلة مستمعيها في أيِّ مكان وزمان.
ومن الوسائل أيضًا: إرسال المنشورات والكُتيِّبات عن طريق صناديق البريد، ويشفعون ذلك بتحيّات أخّاذة تخدع ضُعفاء النفوس.
ومن الوسائل أيضًا: تلك العمالة الوافدة من غير المسلمين، وبخاصة أولئك الذين يعملون في البيوت من الخدَم والسائقين وغيرهم، فلقد أثّر بعضُهم على الأطفال والنساء الجاهلات... ومما يؤكِّد خطورة هذا الأمر مشاوراتٌ نظّمتها إحدى الهيئات التبشيرية عن أوضاع العمالة في منطقة الخليج العربيّ، وخلُصت من دراستها إلى تنظيم زيارات لقادة الكنيسة، وتأمين قساوسة ومُربِّين نصارى يتكلّمون العربية.
إنّ ممّن يشترك في الإثم في هذا المضمار أولئك الذين يحرصون على استقدام العمالة الكافرة من كُفلاء أو مكاتب استقدام، فيستقدمونهم دون السؤال عن حُكم الشرع في ذلك، ولا عن الضوابط التي تُحدِّد مجيء من كان من غير المسلمين!
لقد تكاثرت الأخبار عن تأثير أولئك الخادمات الكافرات على بعض أطفال المسلمين... فهذه طفلةٌ تُكثر من رسم الصّليب! وأخرى تُتمتم بعباراتٍ وثنية! وأخرى تقول.. ورابعة تفعل.. وهكذا..
وممّا اهتمّ به المنصِّرون: استغلال ثلّة من المبتعثين الدارسين الذين بُهروا بحضارة الغرب فاستحوذت على قلوبهم وعقولهم.. هذا النوع من المسلمين ركّز عليه المنصِّرون محاولةً منهم في تنشئة طبقةٍ من المثقّفين ذات ميول غربية، وقد نجح المنصِّرون في ذلك أيما نجاح، فقد كان بعض أولئك المثقّفين عبئًا ثقيلًا على مجتمعه الإسلامي، وذلك من خلال أطروحاته المشبوهة ـ بل الصريحة أحيانًا ـ في مقالاته الصحفية ومحاضراته الجامعية، فحُصوننا مهدّدة من داخلها وخارجها.
ومن أعظم أساليب المنصِّرين خطرًا في هذا الوقت: فتحُ المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين، فهي في حقيقتها داءٌ بطيءٌ وسمٌّ زعاف... يتمسكن حتى يتمكّن! فإذا تمكّن صعُب علاجُه وظهر فسادُه، ولقد بُليت كثيرٌ من بلاد المسلمين بتلك المدارس، فكان من جرائها نشوءُ أجيالٍ تمرَّدت على الفطرة والديانة، فكانوا معاول هدمٍ في مجتمعاتهم، بل كان بعضُهم أحيانًا أشدّ على أمّتهم من العدوّ الأصليّ!
إنّ التهاون بأمر العدُوّ نذيرٌ بتفاقم شرّه وخطره وانتشار دائه، وحينئذٍ يعسُر ويصعُب زواله، ومن أعظم الأدواء: الداء العقديّ الذي يفقد المسلم بسببه راحته النفسية والبدنية في الدنيا والآخرة، وهذا ما يطمع فيه المنصِّرون وأتباعُهم من خلال إفساد عقائد المسلمين وأخلاقهم وسلوكياتهم.
لهذا وذاك؛ كان لزامًا على كلّ مسلم أن يتفطّن لهذا، وأن يتحصّن بما أمره الله تعالى به من المحافظة على إحياء شعائر الإسلام، والتمثّل بأخلاق الإسلام في نفسه وأهله ومن يستطيع دعوته من المسلمين، وأن يحذر من جميع ما يُفسد أمرَ عقيدته وأخلاقه، وذلك بالتخلّص والابتعاد عن جميع وسائل الشرّ، وبخاصة تلك القنوات الفضائية التي تفتح مصراعيها لنشر الرَّذيلة وتصديرها بجميع أشكالها وأنواعها، كما أنّ عليه أيضًا أن يستشعر أنه على ثغرٍ من ثغور الإسلام في أيِّ مكان كان، فيبذل للإسلام ويعمل من أجله، ومجالات ذلك كثيرة متشعِّبة:
فتحذير المسلمين من شرّ الأعداء وكشف مراميهم من العمل للإسلام.
والاعتزاز بشعائر الإسلام من العمل للإسلام.
ودعم المشاريع الخيرية من العمل للإسلام.
ودعوة الوافدين من غير المسلمين من العمل للإسلام.
وتصحيح عقائد الجهَلة من المسلمين من العمل للإسلام.
وتسخير القلم في نفع المسلمين من العمل للإسلام.
فيا أيها المسلم.. لا تحقرنّ من المعروف شيئًا، فأوّل الغيث قطرة ثم ينهمر، وجُهود الخير يبقى أثرُها ولو كانت يسيرةً، فكيف إذا كانت كثيرة متماسكة؟
تأبى الرِّماح إذا اجتمعن تكسُّرًا فإذا افترقن تكسَّرت آحادَا
اللهَ نسأل أن يُعز الإسلام والمسلمين، وأن يحفظ مجتمع المسلمين من شرِّ الأشرار وكيد الفجّار.

مقالات ذات صلة