مكتبـــــة المقالات

2025-10-28 10:00:00

مناهج الإصلاح (1)

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله

أما بعد : فلقد كانت حال الناس في الجاهلية حالاً تجتمع فيها المتناقضات والمضحكات والمبكيات. كانت مجتمعاتهم ترتدي ثياب الفوضى الخلقية والاجتماعية ، كان الظلم قد استوى على سوقه ، وكانت عبادة الأشجار والأحجار شعاراً لكل قبيلة ، فقبيلة تعبد حجراً ، وقبيلة تعبدا شجراً . كانت سوق الربا رائجة ، وكانت الخمر سيدة مجالسهم ، وهكذا كانت حياتهم .. ظلمات بعضها فوق بعض ، ومع هذا الليل البهيم ، بدأ في الأفق صبح يتنفس ، وأذن الله لهذه الظلمات أن تنقشع ، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فأحيا به القلوب ، وأسمع به الآذان ، وفتح به البصائر والأبصار ، فتهذبت أنفس وهوت أفئدة إلى بارئها .قام النبي صلى الله عليه وسلم برسالة ربه خير قيام ، فبلَّغ الرسالة ، وأدَّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، فأوذي في سبيل ذلك أعظم إيذاء ، فقالوا عنه : ساحر ، وتارة : شاعر ، وتارة : مجنون ، وتارة : كان .آذوه وضربوه وأخرجوه ، ومع ذلك كله لم يفتُر عزمه ، ولم تكسر له قناة ، بل زاده صبراً وعزيمة . قيّض الله له أصحاباً بررة ، أوذوا وعذبوا ، بل قُتِلَ بعضهم ، قامت تلك الثُلَّةُ المباركة تدافع عن نبيها ، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم ، تركوا أموالهم وأوطانهم في سبيل نصرته ، ولاقوا في سبيل ذلك المصاعب ، ومع هذا كله ما زادهم إلا إيماناً وتسليماً .كانوا خير أصحاب لخير نبي ، زكاهم ربهم ، وتوعد شانئهم ولامزهم ، فرضى الله عنهم ورضوا عنه .معاشر المسلمين .. ولمّا مات النبي صلى الله عليه وسلم قام الخلفاء الراشدون – رضي الله تعالى عنهم – بعد نبيهم خير قيام ، فحافظوا على دولة الإسلام ، وزادوا في توسيع رقعتها ، وتوطيد دعائمها ، فهابتهم أمم الشرق والغرب ، دخل الناس في دين الله أفواجاً ، واتسع رداءُ الإسلام ، فعم بظِلاله أرجاء كثيرة من المعمورة ، وكانت القرون الثلاثة الأولى هي خير قرون الإسلام وأفضلها ، وكان صدرُ الإسلام العصرَ الذهبي للإسلام والمسلمين .معاشر المسلمين .. ولمّا كان التمسك بالإسلام هو الطريق إلى الظفر والفوز في هذه الحياة ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض» أخرجه الحاكم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه - .

معاشر المسلمين .. لما كان الأمر كذلك ، كانت عزة المسلمين أو ذلتهم خاضعة لمعيار تمسكهم بتعاليم دينهم .معاشر المسلمين .. ولما كان الصراع بين الحق والباطل قائماً على قدم وساق ، أصاب أمة الإسلام من جُرّاء ذلك نوازل عظيمة ، ثم ما لبثت أن استعادت مجدَها أو بعض مجدِها ، ثم عصفت بها نوازل أخرى .معاشر المسلمين ..

وكان من أعظم النـوازل التي حلّت بأمة الإسلام ، وكانت سببـًا – بل باباً مُشْرعاً – لولوج الضعف والوهن في قلب المجتمع الإسلامي : تلك الأمور المحدثة البدعية في العقائد والعبادات ، تلك الضلالات المتنوعة التي شوَّهت نقاء الإسلام وصفاءه ، فأضرحة تعبد من دون الله تعالى ، يطاف حولها ، ويتمسح بجدرانها ، ودماء تُراق لغير وجه الله ، ونذور لغير الله ، وتمائم شركية ، وحلف بغير الله ، وموالد بدعية ، وأذكار ما أنزل الله بها من سلطان . وأما السحرة والكهنة والعرافون ، فسوقهم رائجة ، وبضاعتهم نافقة .ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل خاض خائضون في أسماء الله تعالى وصفاته ، فحرّفوا وألحدوا ، وأوّلوا واستحسنوا ، فكانت عقائدهم تابعةً لعقولهم ، فضلوا وأضلوا كثيراً بعقولهم المجردة عن اتباع النصوص .

قال الإمام السَّجْرِيُّ – رحمه الله تعالى - : ( ولا خلاف بين المسلمين في أن كتاب الله لا يجوز رده بالعقل ، بل العقد دلَّ على وجوب قبوله والائتمام به ، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا ثبت عنه لا يجوز رده ، وأن الواجب ردُّ كلِّ ما خالفهما أو أحدَهما )(1) اهـ .

معاشر المسلمين .. والناظر في كثير من مجتمعات المسلمين ، يرى فيها أثر البُعدِ عن التمسك بالنصوص الشرعية ، فقد غابت كثير من معالم السنن ، وظهرت وانتشرت رائحة البدع النتنة ، فكثير من بلاد المسلمين تلك المساجد التي تحتضن بين جنباتها أضرحةً يُتَحرى حولَها إجابة الدعاء ، بل يجتهد بعضهم في شدِّ الرحال إليها ، يحتار الزائر لبعض بلاد المسلمين في العثور على مسجد يخلو من ضريح أو من ألوان البدع ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

معاشر المسلمين .. ولمّا كان قيام البدع مرهوناً بإماتة السنن ، كانت راية البدع بقدر ارتفاعها تزيد في وهن راية السنة .قام الإمام البَرْبَهَارِيُّ – رحمه الله تعالى - : (واعلم أن الناس لم يبتدعوا بدعةً قط حتى تركوا من السنة مثلَها ، فاحذر المحدثات من الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، والضلالة وأهلها في النار) (2) انتهى كلامه – رحمه الله تعالى - .

فالله نسأل أن يرزقنا الاستقامة على الرشد ، وأن يجنبنا مضلاتِ الفتن ، إنه تعالى سميع مجيب.وللحديث بقية إنْ شاء الله تعالى .


(1) شرح السنة للبربهاري ، ص66-67 .

(2) رسالة السَّجزي إلى أهل زبيد ، ص100 .

مقالات ذات صلة