301-[من دهاء اللصوص ]
قال التنوخي :(كيف استعاد التاجر البصري ماله)"وحدثني أيضاً، قال: حدثني ابن الدنانيري التمار الواسطي، قال: حدثني غلام لي قال:كنت ناقداً بالأبلة، لرجل تاجر، فاقتضيت له في البصرة نحو خمسمائة دينار عيناً وورقاً، ولففتها في فوطة، وأشفيت على المصير إلى الأبلة.فما زلت أطلب ملاحاً، حتى رأيت ملاحاً مجتازاً في خيطية خفيفة فارغة، فسألته أن يحملني، فسهل علي الأجرة، وقال: أنا راجع إلى منزلي بالأبلة، فانزل معي، فنزلت، وجعلت الفوطة بين يدي.وسرنا إلى أن تجاوزنا مسماران، فإذا رجل ضرير على الشط، يقرأ أحسن قراءة تكون.فلما رآه الملاح كبر، فصاح هو بالملاح: احملني، فقد جنني الليل، وأخاف على نفسي، فشتمه الملاح.فقلت له: احمله، فدخل إلى الشط فحمله، فلما حصل معنا رجع إلى قراءته، فخلب عقلي بطيبها.فلما قربنا من الأبلة، قطع القراءة، وقام ليخرج في بعض المشارع في الأبلة، فلم أر الفوطة، فقمت واقفاً، واضطربت، وصحت.فاستغاث الملاح، وقال: الساعة تقلب الخيطية، وخاطبني خطاب من لا يعلم حالي.فقلت له: يا هذا، كانت بين يدي فوطة فيها خمسمائة دينار.فلما سمع الملاح ذلك، بكى، ولطم، وتعرى من ثيابه، وقال: أدخل الشط ففتش، ولا لي موضع أخبئ فيه شيئاً فتتهمني بسرقته، ولي أطفال، وأنا ضعيف، فالله، الله في أمري، وفعل الضرير مثل ذلك.وفتشت الخيطية فلم أجد شيئاً، فرحمتهما، وقلت: هذه محنة لا أدري كيف التخلص منها، وخرجنا، فعملت على الهرب، وأخذ كل واحد منا طريقً، وبت في بيتي، ولم أمض إلى صاحبي، وأنا بليلة عظيمة.فلما أصبحت، عملت على الهرب إلى البصرة، لأستخفي فيها أياماً، ثم أخرج إلى بلد شاسع.فانحدرت، فخرجت في مشرعة بالبصرة، وأنا أمشي وأتعثر وأبكي قلقاً على فراق أهلي وولدي، وذهاب معيشتي وجاهي، إذ اعترضني رجل.فقال: يا هذا، ما بك ؟ فقلت: أنا في شغل عنك، فاستحلفني، فأخبرته.فقال: امض إلى السجن ببني نمير، واشتر معك خبزاً كثيراً، وشواءً جيداً، وحلوى، وسل السجان أن يوصلك إلى رجل محبوس، يقال له: أبو بكر النقاش، وقل له: أنا زائره، فإنك لا تمنع، وإن منعت، فهب للسجان شيئاً يسيراً فإنه يدخلك إليه، فإذا رأيته فسلم عليه ولا تخاطبه حتى تجعل بين يديه ما معك، فإن أكل وغسل يديه، فإنه يسألك عن حاجتك، فأخبره خبرك، فإنه سيدلك على من أخذ مالك، ويرتجعه لك.ففعلت ذلك، ووصلت إلى الرجل، فإذا هو شيخ مثقل بالحديد.فسلمت عليه، وطرحت ما معي بين يديه، فدعا رفقاءً كانوا معه فأقبلوا يأكلون معه، فلما استوفى وغسل يديه.قال: من أنت، وما جاء بك ؟ فشرحت له قصتي.فقال: امض الساعة لوقتك - ولا تتأخر - إلى بني هلال، فاقصد الدرب الفلاني حتى تنتهي إلى آخره، فإنك تشاهد باباً شعثاً، فافتحه وادخل بلا استئذان، فستجد دهليزاً طويلاً يؤدي إلى بابين، فادخل الأيمن منهما، فسيدخلك إلى دار فيها بيت فيه أوتاد وبواري، وعلى كل وتد إزار ومئزر، فانزع ثيابك، وعلقها على الوتد، واتزر بالمئزر واتشح بالإزار، واجلس، فسيجيء قوم يفعلون كما فعلت، إلى أن يتكاملوا، ثم يؤتون بطعام فكل معهم، وتعمد أن تفعل كما يفعلون في كل شيء.فإذا أتوا بالنبيذ فاشرب معهم أقداحاً يسيرة، ثم خذ قدحاً كبيراً، فاملأه، وقم، وقل: هذا ساري لخالي أبي بكر النقاش، فسيضحكون ويفرحون، ويقولون: هو خالك ؟ فقل: نعم، فسيقومون ويشربون لي، فإذا تكامل شربهم لي، وجلسوا، فقل لهم: خالي يقرأ عليكم السلام، ويقول لكم: بحياتي يا فتيان، ردوا على ابن أختي المئزر الذي أخذتموه أمس من السفينة بنهر الأبلة، فإنهم يردونه عليك.فخرجت من عنده، ففعلت ما قال لي، وجرت الصورة، على ما ذكر، سواء بسواء، وردت الفوطة علي بعينها، وما حل شدها.فلما حصلت لي، قلت لهم: يا فتيان، هذا الذي فعلتموه هو قضاء لحق خالي، وأنا لي حاجة تخصني.فقالوا: مقضية.فقلت: عرفوني كيف أخذتهم الفوطة ؟ فامتنعوا، فأقسمت عليهم بحياة أبي بكر النقاش.فقال لي واحد منهم: تعرفني ؟ فتأملته، فإذا هو الضرير الذي كان يقرأ. وإنما كان يتعامى حيلة ومكراً.وأومأ إلى آخر، وقال: أتعرف هذا ؟ فتأملته، فإذا هو الملاح بعينه.فقلت: أخبراني كيف فعلكما ؟فقال الملاح: أنا أدور في المشارع في أول أوقات المساء، وقد سبقت المتعامي فأجلسته حيث رأيت، فإذا رأيت من معه شيء له قدر، ناديته وأرخصت عليه الأجرة وحملته، فإذا بلغ إلى القارئ، وصاح بي، شتمته، حتى لا يشك الراكب في براءة الساحة، فإن حمله الراكب فذاك، وإن لم يحمله رققته حتى يحمله، فإذا حمله، وجلس هذا يقرأ قراءته الطيبة، ذهل الرجل كما ذهلت أنت، فإذا بلغنا إلى موضع نكون قد خلينا فيه رجلاً متوقعاً لنا، يسبح حتى يلاصق السفينة، وعلى رأسه قوصرة، فلا يفطن الراكب، فيستلب هذا الرجل المتعامى - بخفة - الشيء الذي قد عينا عليه، فيلقيه إلى الرجل الذي عليه القوصرة، فيأخذها ويسبح إلى الشط، فإذا أراد الراكب النزول، وافتقد ما معه، عملنا كما رأيت، فلا يتهمنا، ونتفرق، فإذا كان الغد، اجتمعنا واقتسمنا ما أخذناه، واليوم كان يوم القسمة، فلما جئت برسالة خالك أستاذنا، سلمنا إليك الفوطة، قال: فأخذتها، وانصرفت ".
[الفرج بعد الشدة للتنوخي (4-251 و255) تحقيق عبود الشالجي صادر بيروت].